وهي أوّلُ حرب كان بها الامتحانُ ، وملأت رَهْبَتُها صدورَ المعدودين من المسلمين في الشجعان ، وراموا التاخّرَ عنها لخوفهم منها وكَراهتهم لها، على ما جاء به مُحكم الذِكر في التبيان ، حيثُ يقول - جلّ جلاله - فيما قصّ به من نبأهم على الشرح والبيان (كَمَا اَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ باِلحَقِّ وَاِنَّ فَريقأ مِنَ اْلمؤمِنينَ لَكَارِهُونَ *يُجَادِلُونَكَ في الحق بَعْدَ مَا تَبَينِّ كَاَنَّمَا يُسَاقوُنَ اِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) في الآي المتصلة بذلك الى قوله تعالى : (وَلاَ تَكَوُنوا كَآلَّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ ألنّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ أللّه وَأللّه بمَا يَعْمَلوُنَ محيطٌ ) إِلى آخر السورة . فإنّ الخبرَعن أحوالهم فيها يتلُو بعضه بعضاً، وإن اختلفت ألفاظُه واتّفقت معانيه . وكان من جملة خبر هذه الغزاة، أنّ المشركين حضروا بدراً مُصرِّين على القتال ، مُستظهِرين فيه بكثرة الأموال ، والعَدَد والعُدّة والرجال ، والمسلمون إذ ذاك نفر قليل عددهم هناك ، حضرتْه طوائفٌ منهم بغير اختيار، وشَهِدَتْه على الكُرْه منها له والاضطرار، فتحدَّتْهم قريش بالبِراز ودَعَتْهم إلى المُصافّة والنِزال ، واقترحَتْ في اللقاء منهم الأكفاء ، وتطاولت الأنصارُ لمبارَزَتهم فمنعهم النبي صلّى اللّه عليه وآله من ذلك ، وقال لهم : «إنّ القومَ دَعَوْا الأكفاء منهم» ثمّ أمر علياً أميرَ المؤمنين عليه السلام بالبرُوز إليهم ، ودعا حمزةَ بن عبد المطّلب وعُبَيْدَة بن الحارث - رضي اللّه عنهما- أن يَبْرُزا معه . فلمّا اصطفُّوا لهم لم يُثْبِتهم القوم ، لأنهم كانوا قد تَغَفروا فسألوهم : من أنتم ،فانْتَسَبوا لهم ، فقالوا : أكْفاءٌ كِرامٌ . ونَشِبَتْ الحربُ بينهم ، وبارز الوَليدُ أميرَ المؤمنين عليه السلام فلم يُلَبِّثه حتّى قتله ، وبارَزَ عُتْبَةُ حمزةَ - رضي اللّه عنه - فقتله حمزة ، وبارز شَيبةُ عُبَيدةَ ـ رحمه الله - فاختلفت بينهما ضربتان ، قَطَعت إحداهما فخِذَ عُبَيدة، فاستنقذه أميرُ المؤمنين عليه السلام بضربة بَدَر بها شَيْبَة فقتله ، وشرَكَه في ذلك حَمْزَة- رضوان اللّه عليه - فكان قتل هؤلاء الثلاثة أوّل وَهْن لَحِق المشركين ، وذُلٍّ دَخَل عليهم ، ورَهْبةٍ اعتراهم بها الرعْب من المسلمين ، وظَهَر بذلك أماراتُ نصر المسلمين . ثمّ بارز أميرُ المؤمنين عليه السلام العاصَ بن سعيد بن العاص ، بعد أن أحجم عنه من سواه فلم يُلَبّثه أن قتله . وبَرَز إليه حَنْظَلةُ ابنُ أبي سفيان فقتله ، وبَرَز بعده طُعيْمَةَ بن عَدِيّ فقتله ، وقتل بعده نَوْفَلَ بنَ خُوَيْلِد - وكان من شياطين قريش - ولم يزل عليه السلام يقتل واحداً منهم بعد واحد، حتى أتى على شَطْر المقتولين منهم ، وكانوا سبعين قتيلاً تولّى كافّة من حَضَرَ بدراً من المؤمنين مع ثلاثة آلافٍ من الملائكة المسوّمين قتلَ الشَطْر منهم ، ّوتولّى أمير المؤمنين قتلَ الشَطْر الآخر وحده ، بمعونة اللة له وتوفيقه وتاييده ونصره ، وكان الفتحُ له بذلك وعلى يديه ، وختم الأمر بمناوَلة النبي صلّى اللّه عليه وآله كفّاً من الحَصى ، فرمى بها في وجوههم وقال : «شاهَت الوجوه» فلم يبقَ أحدٌ منهم إلاّ ولّى الدُبر لذلك منهزمأ، وكفى الله المؤمنين القتال بامير المؤمنين عليه السلام وشُرَكائه في نُصرْة الدين من خاصّة (آل الرسول ) - عليه وآله السلام - ومن أيّدهم به من الملائكة الكرام عليهم التحية والسلام كما قال اللّه عزّ وجلّ
وكفى اللّه المؤْمِنينَ الْقِتَالَ وكَانَ أللّه قَوِيّاً عَزيزاً) .
وقد أثبت رواة العامّة والخاصّة معاً أسماءَ الذين تَولّى أميرُالمؤمنين عليه السلام قَتْلَهم ببدر من المشركين ، على اتّفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح ، فكان ممّن سمّوه: الوَليدُ بن عُتْبة - كما قدّمناه - وكان شجاعاً جَريئاً فاتكاً وقّاحاً ، تَهابُه الرجال . والعاصُ بن سعيد، وكان هَوْلاً عظيماً تَهابهُ الأبطال . وهو الذي حادَ عنه عُمَر بن الخطّاب ، وقصّته فيما ذكرناه مشهورة. وطُعَيْمةُ بن عَدِيّ بن نَوْفَل ، وكان من رؤوس أهل الضلال . ونوفَلُ بن خُوَيلِد ، وكان من أشدّ المشركين عَداوةً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكانت قريش تُقدّمه وتُعَظّمه وتُطيعه ، وهو الذي قَرَن أبا بكر بطلْحة - قبل الهجرة بمكّة - وأوثَقَهما بحَبْل وعذّبهما يوماً إلى الليل حتّى سُئِلَ في أمرهما . ولمّا عَرَفَ رسولُ اللة صلّى اللّه عليه واله حضوره بدراً ، سال اللّه عزّ وجلّ ان يكفيه أمره فقال : «اللّهمّ اكفِني نَوْفَل بن خُويلِد» فقتله أمير المؤمنين عليه السلام . وزَمْعَةُ بن الأسْوَد. والحارِثُ بن زَمْعَة . والنَضْرُ بن الحارث بن عَبْد الدار. وعُميرُبن عُثمان بن كَعبْ بن تَيْم ، عمّ طَلْحة بن عُبَيداللّه . وعُثمانُ ، ومالكُ ابنا عُبَيداللّه ، أخوا طَلْحة بن عُبَيداللّه . ومسعود بن أبي أمَيّة بن المُغِيرة . وقَيْسُ بن الفاكِه بن المُغِيرة. وحُذَيْفَةُ بن أبي حذيفة بن المُغِيْرة. وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة . وحَنْظَلَة بن أبي سُفيان . وعَمْروُ بن مَخزوم . وأبو المُنذِر بن أبي رِفاعَة . ومُنَبّهُ بن الحَجّاج السَهِميّ . والعاصُ بن مُنَبِّه . وعَلقْمَةُ بن كَلَدَة . وأبو العاصِ بن قيسْ بن عَدِيّ . ومعاوية بن المُغِيرة بن أبي العاص . ولُوْذانُ بن رَبيعة . وعبدُاللّه بن المنذر بن أبي رِفاعة . ومسعودَ بن أمَيّة بن المُغِيرة . وحاجِبُ بن السائب بن ِ عويمر. وأوسُ بن المُغَيرة بن لُوْذان . وزيدُ بن ملَيص . وعاصمُ بن أبي عَوْف . وسعيدُ بن وَهْب ، حليف بني عامر. ومعاويةُ بن عامر بن عبد القَيس . وعبدُالله بن جَميل بن زُهَيْر بن الحارث بن أسَد. والسائبُ بن مالك . وأبو الحَكَم بن الأخْنَس . وهِشامُ بن أبي اُمَيّة بن المُغِيرة .
فذلك خمسة وثلاثون رجلاً ، سوى من اخْتُلِف فيه ، أو شَرِك أمير المؤمنين عليه السلام فيه غيره ، وهم أكثر من شَطْر المقتولين ببدر، على ما قدّمناه .
فمن مختصر الأخبار التي جاءت بشرح ما أثبتناه ، ما رواه شُعْبةَ، عن أبي إسحاق ، عن حارث بن مضَرّب قال : سمعت عليَّ بن أبي طالب عليه السلام يقول : «لقد حضرنا بدراً وما فينا فارسٌ غير المِقْدَاد بن الأسود ، ولقد رأيتُنا ليلةَ بدرٍ وما فينا إلاّ من نام ، غير رَسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فإنّه كان مُنْتَصِباً في أصل شجرةٍ يُصلّي ويَدْعُو حتّى الصباح» .
وروى عليّ بن هاشم ، عن محمّد بن عُبَيد اللّه بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جدّه أبي رافع مولى رسول الله صلّى اللّه عليه واله - قال : لمّا أصبح الناسُ يومَ بدر، اصطفّتْ قريش أمامَها عُتْبَة بن رَبيعة وأخوه شَيْبة وابنهً الوَليد، فنادى عُتْبَةُ رسولَ الله صلّى اللّه عليه والهَ فقال : يا محمّد، أخْرِجْ إلينا اكفاءَنا من قريش . فَبَدر إليهم ثلاثةٌ من شُبّان الأنصار فقال لهم عُتْبَة : من أنتم ؟ فانتسبوا له ، فقال لهم : لا حاجةَ بنا إلى مبارَزتكم ، إنّما طَلَبْنا بني عمّنا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للأنصار: «اِرجِعوا إلى مَواقِفكم» ثمّ قال : «قُمْ يا عليّ ، قُمْ يا حمزة، قُمْ يا عُبَيْدة، قاتلوا على حقّكم الذي بَعَث اللّه به نبيَّكم ، إذ جاؤوا بباطلهم ليُطْفِؤُوا نورَ الله» فقاموا فصَفّوا للقوم ، وكان عليهم البَيْض فلم يُعْرَفوا، فقال لهم عُتْبَة : تكلّموا، فإن كنتم أكفاءَنا قاتلناكم . فقال حمزة : أنا حمزةُ بن عبد المطّلب ، أسد الله وأسد رسوله ،فقال عُتْبة : كُفوٌ كريم . وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب» وقال عُبيدة: أنا عُبيدة بن الحارثِ بن عبد المطّلب . فقال عُتبة لابنه الوَليد : قم يا وليد، فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام - وكانا إذ ذاك أصغرِي الجماعة سنّاً - فاختلفا ضربتين ، أخطأتْ ضربةُ الوليد أميرَ المؤمنين عليه السلام واتقى بيده اليُسرى ضربةَ أمير المؤمنين عليه السلام فأبانَتْها . فرُوِي أنّه كان يذكُر بدراً وقَتْلَه الوليدَ، فقال في حديثه : «كانّي أنظُر إلى وَميض خاتمه في شِماله ، ثمّ ضرَبته ضربةً أخرى فصَرَعتُه وسَلَبتُه ، فرأيتُ به رَدْعا من خَلوق ، فعَلِمتُ أنّه قريبُ عهدٍ بعُرْس» . ثم بارزعُتبة حمزة رضي اللّه عنه فقتله حمزة، ومشى عُبيدة- وكان أسنَّ القوم - إلى شَيبة ، فاختلفا ضربتين ، فأصاب ذُباب سيف شَيبة عَضَلة ساق عُبيَدة فقَطَعَتْقا ، واستنقَذَه أميرُ المؤمنين عليه السلام وحمزةُ منه وقَتلا شيبةَ، وحُمِلَ عُبَيدة من مكانه فمات بالصَفراء . وفي قتل عُتْبةَ وشَيْبة والوليد تقول هند بنت عُتبة :
([أ] ياعين ) جُودي بدَمْع سَرِب * على خيرخِنْدِف لم يَنْقَلِب
تَداعى له رَهْطُه غُدَوةً * بنوهاشمٍ وبنوالمطّلب
يُذيقونة حَر أسيافِهم * يَجُرُّونه بعدَما قد شَجِب
وروى الحسين بن حُمَيد قال : حدَّثنا أبوغسّان قال : حدَّثنا أبو إسماعيل عُمَير بن بَكّار، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه السلام : لقد تعجَّبتُ يومَ بدر من جُرأة القوم ، وقد قتلتُ الوليدَ بن عُتبة وقتل حمزةُ عتبةَ وشَرِكتهُ في قتلِ شَيبة، إذْ أقبل إليّ حَنْطَلة بن أبي سفيان ، فلمّا دنا منّي ضربتهُ ضربةً بالسيف فسالتْ عيناه ، فلَزِم الأرضَ قتيلاً».
وروى أبو بكر الهُذَلي ، عن الزُهْري ، عن صالح بن كَيْسان قال : مرّ عُثمان بن عَفّان بسعيد بن العاص فقال : إِنطلقْ بنا إلى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطّاب نتحدّث عنده ، فانطلقا ، قال : فأمّا عُثمان فصار إلى مجلسه الذي يَشتهيه ، وأمّا أنا فمِلْت في ناحية القوم ، فنظر إليّ عُمَر وقال : ما لي أراك كأنّ في نفسك عليّ شيئاً؟ أتظُنُّ أنّي قتلتُ أباك ؟ والله لوَدِدتُ أني كنتُ قاتلَه ، ولو قتلتهُ لم أعتذرْ من قتل كافرٍ ، لكننّي مررتُ به يومَ بدرٍ فرأيتهُ يَبْحَث للقتال كما يَبْحَث الثورُ بقَرْنه ، وإذا شِدْقاه قد أزْبَدا كالوَزَغ ، فلما رأيتُ ذلك هِبْتُه ورُغْتُ عنه ، فقال : إلى أين يا ابن الخطّاب ؟ وصَمَد له علي فتناوله ، فواللّه ما رِمْتُ مكاني حتّى قتله . قال : وكان عليّ عليه السلام حاضراً في المجلس فقال : «اللّهم غَفْراً ، ذَهَب الشركُ بما فيه ، ومَحا الإسلام ما تقدّم، فما لك تَهيج الناسَ ! ؟» فكَفّ عُمَر، قال سعيد : أما إنّه ما كان يَسًّرني أن يكون قاتل أبي غيرَ ابن عمّه عليّ بن أبي طالب ، وأنشا القوم في حديث اخر .
وروى محمّد بن إسحاق ، عن يزيدَ بن رُوْمان ، عن عرُوة بن الزبير: أنّ علياً عليه السلام أقبل يومَ بدر نحو طُعَيْمَة بن عَدِيّ بن نَوْفَل فشَجَره بالرُمح ، وقال له : «واللة، لا تخاصِمُنا في اللّه بعد اليوم أبداً» . وروى عبد الرَزاق ، عن مَعْمَر، عن الزُهْريّ قال : لمّا عَرَف رسول اللّه صلّى اللّه عليه واله حضور نَوْفَل بن خُويَلد بدراً قال : اللّهم اكفِني نَوْفلاً« فلما انكشفَتْ قريش رآه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقد تحيّر لا يَدري ما يَصْنع ، فصَمَدَ له ثمّ ضربه بالسيف فنَشِبَ في حَجَفته فانتزعه منها، ثمّ ضرب به ساقَه - وكانت دِرعه مُشَمّرَة - فقطعها، ثمّ أجهز عليه فقتله . فلما عاد إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله سَمِعه يقول : «مَنْ له علمً بنَوْفل ؟ فقال له : أنا قتلتُه يا رسولَ اللة» فكبّر النبي صلّى اللّه عليه وآله وقال : «الحمد للّه الذي أجاب دعوتي فيه» .
هذه القصة نقلا عما ورد في كتاب الارشاد .