لم يكن للعرب قبل القرآن كتاب, فكانوا أمة أمية... وإن كان فيهم من يعرف
القراءة ويحسن الكتابة؛ فلم تكن أميتهم جهلا بالقراءة والكتابة مطلقا
وإنما كانت جهلا بقراءة مخصوصة وكتابة مخصوصة: إلا وهى الجهل بقراءة الوحى
الإلهى وكتابته أو قل إن شئت: إنها الجهل بطرائق الهداية الربانية و سبل
الرشاد النبوية.
كان رسل كسرى وقيصر يحملون رسائل ملوكهم الى
العرب، وكانت قريش تكتب إليهم فيحمل سفراؤها كتبها إليهم، وكان ورقة بن
نوفل يكتب التوراة والإنجيل بالعربية من العبرانية، وكان للنبي صلى الله
عليه وسلم كتاب يكتبون ما أوحاه الله إليه من القرآن؛ بلغ عددهم أربعين
كاتبا، ولولا أنهم كان فيهم قارئون وكاتبون ما نهاهم النبي صلى الله عليه
وسلم عن كتابة شئ غير القرآن فقال: " لا تكتبوا عنى شيئا غير القرآن ومن
كتب شيئا غير القرآن فليمحه" رواه مسلم.
نعم؛ كان فيهم قارئون
وكاتبون... فلما وصفهم القرآن بالأميين لم يستثن منهم أحدا، ولم يقل
القارئون والكاتبون في ذلك الزمان البعيد أننا بريئون من هذا الوصف خارجون
عن تلك السمة.
حدد القرآن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم:
"
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ " الجمعة 2
فوصفهم
جميعا بالأميين؛ وهى انقطاعهم عن كتاب يهتدون به وخلوهم من رسول يقتدون به
ثم ذكر المنة العظمى والنعمة الكبرى فلم تكن هى تعليمهم القراءة والكتابة،
وما كان ذلك فى إمكانه صلى الله عليه وسلم وإن كانت هى إحدى وسائل الهداية
التى لا يستغنى عنها، وإنما كانت المنة هى تلاوة الآيات على أسماعهم،
وكانت النعمة هى تزكية قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وتعليمهم ما فى هذا
الكتاب من واجبات مفروضة وفطرة مرغوبة وسنة محبوبة.
كان اليهود
والنصارى أهل كتاب؛ يقرءون التوراة والإنجيل فيحرفونهما، ويكتبونهما
فيبدلون ويغيرون، وكانوا يستحلون أموال العرب الأميين ويعتبرون خيانتهم
قربة وخداعهم دينا :
" وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن
تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ
بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " ال عمران
لم
يكونوا يعنون أبدا بالأميين الذين يجهلون القراءة والكتابة ولم يعرف أنهم
عقدوا امتحانات وأجروا اختبارات ليضعوا هؤلاء الأميين الذين يجهلون
القراءة والكتابة فى خانة مهضومى الحقوق الذين يحل أكل أموالهم ونهب
ثرواتهم والكذب عليهم والتغرير بهم، إنما قصدوا بذلك كل العرب الذين لا
رسالة لديهم يهتدون بها ولا كتاب يرجعون إليه فكانوا هم الأميين بحق...
وكان
من أهل الكتاب طائفة من الأحبار والرهبان قد علموا التوراة والإنجيل
وفهموا مرامى الكتابين وأهدافهما وما فيهما من خير وحق وهداية ورشاد مما
لا يوافق نواياهم الخبيثة وطواياهم الماكرة فانطلقوا يحرفون ويبدلون
ويغيرون
" أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ
فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ
بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " البقرة 75
" فَوَيْلٌ
لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً..." البقرة 79
وكانت
هناك طائفة أخرى من أهل الكتاب لا تحفل بكتابها ولا يعنيها ما يصنع هؤلاء
المزورون فعاشوا مهمشين يكتفون بما يلقيه إليهم أحبارهم ورهبانهم من
تعليمات وما يأمرونهم به من طقوس من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث
والتدقيق والمراجعة، وهؤلاء ذكرهم القرآن ونعى عليهم موقفهم السلبى:
" وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ " البقرة 78
فانظر
كيف وصفهم بأنهم "أميون"؟؟!! ثم فسرها بقوله: " لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ
" فلربما قرأوا ودرسوا وفهموا وكتبوا علوما أخرى أو جهلوا ذلك كله ليس هذا
موضوعهم، وإنما موضوعهم أنهم جهلوا الكتاب فأداروا له ظهورهم وصرفوا عنه
همومهم واكتفوا بما ألقاه إليهم أحبارهم ورهبانهم من تعليمات أملاها عليهم
الهوى وطقوس حملهم عليها شهوات نفوسهم واستعباد رؤسائهم واتخاذ بعضهم بعضا
أربابا من دون الله، فكانت الأمية الحقيقية هى الجهل بالكتاب وترك تعلمه
وعدم الوقوف عند نصوصه وحروفه – وكم من المسلمين اليوم أميون لا يعلمون
الكتاب إلا أمانى وإن زينوا بآياته جدران بيوتهم وحوائط مساجدهم وربما
حلىَ نسائهم.
أرسل الله رسوله إلى الناس كافة؛ عربهم وعجمهم
وأحمرهم وأسودهم، من كان عنده كتاب وسبق أن بعث فيهم نبى أو حرموا ذلك...
وأمره بأن يدعوا الفريقين للإسلام فقال:
" ... وَقُل لِّلَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ
فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ ... "
آل عمران 20
ففريق عنده كتاب سابق وجب عليه طى كتابه واتباع ما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما عنده، وفريق ليس عنده كتاب سابق وجب
عليه أيضا أن يتبع هذا الهدى... ولا ثالث لهذين الفريقين- والذين أوتوا
الكتاب هم اليهود والنصارى، والأميون هم كل من عداهم ممن لا يهتدى بكتاب
ولا يقتدى برسول.
نعم: وصف القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه:
" .. الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ..." الأعراف 157
وقال: " ... فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ... " الأعراف 158
ذلك
أن الأنبياء الذين تتابعوا على بنى إسرائيل كانوا يهتدون بالتوراة ويقتدون
بموسى، وليس كذلك النبى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يسبق له قراءة
أحد الكتابين أو كليهما فتلك أميته صلى الله عليه وسلم وسر معجزته ودلاله
نبوته.... وإلا فمن أين له كتاب يصدق ما فى الكتابين!!
وأيضا قال
صلى الله عليه وسلم: "إنى أرسلت إلى أمة أميه لم تقرأ كتابا" وهو لا يزال
يدور حول المعنى ذاته، فالمقصود أنها لم تقرأ كتابا سماويا ولم تتعرف على
وحى إلهى، ذلك أن كلمة "الكتاب" عند العرب لم تكن تعنى إلا هذا
الكتاب..... لذلك سمى القرآن هؤلاء الذين حازوا هذا الفضل ونالوا ذلك
الشرف سماهم "الذين أوتوا الكتاب" وسماهم "أهل الكتاب" وسماهم "الذين
أوتوا العلم"، فلم يكن عند العرب كتاب فى الطب أو فى القانون ولم يكن
عندهم مرجع فى الفلك أو قراطيس تذكر المنطق والفلسفة.
وأيضا قال
صلى الله عليه وسلم: "نحن أمة أمية لا نحسب" وهى أمية خاصة تتعلق بعدم
معرفة الحساب فى ذلك الوقت... والتى انتفت بعد ذلك عن الأمة فنزلت آيات
المواريث تذكر النصف والربع والثمن والسدس والثلث والثلثين وما تفرع عن
هذا العلم من عول ورد وتصحيح......, وكل من جهل علما فهو أمى بالنسبة لهذا
العلم وأن برع فى غيره. فعالم بالطب أمى فى علوم النجوم، وعالم بالفقه أمى
فى علوم البحار، وعالم فى الكائنات أمى فى الرياضيات.
ذلك أن الأمى
منسوب الى الأم؛ بمعنى أنه على حاله التى خرج عليها من بطن أمه إذ يخرج لا
علم عنده فإذا استفاد العلوم وتقلب فى مدارج الفنون زالت عنه الأمية فى كل
علم تعلمه وفى كل فن ارتقى فى مدارجه وظل أميا فى كل فن جهله وفى كل علم
غابت عنه معالمه فإذا عرف ربه فشكر له فى النعماء، وصبر له فى الضراء،
وعبده فلم يشرك به شيئا، وأحسن إلى خلقه، فقد زالت عنه الأمية إذ تلك هى
غاية كل العلوم.... وإن لم يكن كذلك بقى أميا وإن طال عمره وكثر ماله
وولده.
" وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " النحل 7